"كان ديمقريطس وهرقليطس فيلسوفين. اعتبر أولهما الحالة البشرية مضحكة باطلة، فما ظهر بين الناس إلا والضحك والسخرية ملء وجهه. أما هرقليطس فقد شفق على الحالة البشرية وعطف عليها، فما انقشع الأسى عن وجهه يوماً، وماخلت عيناه من الدموع.."
مونتين
الخيال / الثورة:
الثورة "فعل رفضوي حاسم" ، فهي تقوم على رفض الحاضر كاملاً وكلية، والجنوح بشتى الوسائل التعبيرية –بداية من اللغة- إلى نقضه وإزالته ، و إستبداله -وليس إصلاحه- ، وهو فعل لا يصدر بمنأى عن التخيل الحر إذ أنه قمة الحرية في التخيل ،ماكانت لتكون ثورة مالم تكن فكرة رحيل إبن علي ومبارك حتى اللحظة الأخيرة الماقبل ثورية بل وفي اثناء الثورة إلا محض خيال فاضح وجامح. فمن منا تخيل يوماً أن طغاة العرب سيهرب منهم من يهرب و يسجن منهم من يسجن، كيف ذلك وبلادنا تتحقق فيها النصيحة: "إذا تكلمت نهارا فأخفت ، و إذا تكلمت ليلا فإلتفت"، هي التي صدحت فيها عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام".
ولم يتوقف الخيال عند هذا الحد ، فسيرورة الخطاب الثوري من "الشعب يريد إسقاط النظام" إلى "الشعب يريد محاكمة السفاح" وغيرها من التعبيرات التي بقيت لعقود سجينة الخوف و الظلمة ، هي تطور تعبيري عما يعتمل خيالاً في الوعي الجمعي العربي، و التي لم تكن لولا أن تحرر الخيال فينا وخرج للفضاء العام. الجذر التخيلي للثورة -أي ثورة- في مقاومة الواقع وتغييره ، لابد لنا أن يقودنا للتوقف أما التالي:
أولاً: لكل منا القدرة على التخيل ، فكل منجزاتنا الإنسانية مابدأت إلا خيالاً وحلماً ، وسواءاً أدركنا ما نقترف من خيال أم لم ندرك ، هو مطبوع في عقلنا اللاواعي ، وهو الأكثر تأثيراً على تصرفاتنا و إدراكنا للعالم ولذواتنا، وهنا موطن القوة ، فلولا تلك القدرة لما واجهت القوة المتخيلة (إرادة الشعوب) تلك القوة المتحققة (الأجهزة القمعية).
ثانياً: ولأن الرواية هي "بداية جديدة للعالم" بمنطق الراحل إدوارد سعيد، أي أنها محاولة لخلق عالم جديد، فكذلك هي الثورة ، من حيث أنها إعادة خلق وإبتداء لعالم (مجتمع) جديد ، بعد إعلان رفض الحاضر المستلب ، بعبارة أخرى الثائر يحمل وجهاً من وجوه الروائي، مما يتحقق في القول أن الثورة لا تقوم لتحقيق الممكن و إلا ماكانت ثورة ، الثورة تقوم لتحقيق المستحيل (المستحيل الذي لا يتسع له الحاضر/الواقع، و إلا ماكان مستحيلاً) ، وهنا تنكسر الصورة النمطية (الكليشيه) التي تنظر للروائي والثائر –والشاعر كمثقف عضوي- على أنه منفصل عن الواقع ويعيش في بعد منفصل عن العالم و الواقع ، ونعيد للتذكير: ألم تكن الثورة حلماً؟ ألم يكن إسقاط هؤلاء الطغاة ضرباً من المستحيل؟ ألم يكن تخيلاً جامحاً أن تنزل الشعوب إلى الميادين العامة وتصدح بما خفت به حديثها ليلا: "الشعب يريد إعداء الرئيس"؟.
ثالثاً: إن لحظتي الوعي السابقتين: "التخيل" لبداية و عالم جديدين ومستحيلين و "الرفض" لواقع معاش و مستلب ، هما اللحظتين اللتين تتحدان لتخلقا "العمل الروائي" وهو الواقع المتخيل ، الذي يجب أن يكون ، و "الشخصيات الروائية" المتخيلة التي تعمل على خلق ذلك العالم المتخيل و/أو السعي إليه بديلا عن الواقع المعاش.
وهو تماماً ما يمكن مطابقته مع شرارات الثورات العربية ، بداية من محمد البوعزيزي الذي أعلن رفضه لواقعه المستلب بالظلم و الطغيان ، ففعل أكثر خيالاتنا "إستحالةً" وجموحاً وخيالاً فأحرق نفسه. وخالد سعيد الذي وقع عليه من الوحشية و الدموية والبشاعة مالا يمكن تخيله ، فقط لأنه رفض واقعه ، و أعلن ذلك الرفض بغية تغييره، فكان كما وصفه الكثير من الشباب "هو مثلي و مثل كل فرد فينا هو أنا و أنت و هو". وكان أطفال درعا وحمزة الخطيب هم جموح الفطرة فينا في التخيل و الرغبة في الإنعتاق، من واقع لا يتسع لخيالنا.
هم شخوص وجودوا في واقعنا ليحرروا خيالاتنا ، ويقروا بمستحيل قابل للتحقق ،ليبشروا بخيال حر ، تلك أهم وظائف الأدب. أحرار هم من مستحيلاتنا ، شخوص روائية حية وحرة ، حرية تخرج عن سيطرة الطرف الأقوى من العلاقة بين الروائي و شخصياته المتخيلة ، فالشخصيات الروائية تامة الحرية لها مواقفها و تحيزاتها و تجاربها و إنتماءاتها ، اللاتي ليس بالضرورة أن تتفق مع كاتب النص ولا متلقيه ، وهو عين الثورة والأدب أن تخرج عن الممكن إلى المستحيل ، وتثور بأن تطرح الأسئلة و تستكشف الواقع وتستشرف المستقبل ، و إلا فما الأدب؟
كل هؤلاء إنطبعوا في الوعي والإدراك الجمعي العربي بشكل تخيلي في أحد جوانبه (تماما كالأعمال الروائية الخالدة) ، ومن هنا وجبت الإشارة إلى أن الفارق بين الروائي والثائر أن كلاهما يقوم بفعل التخيل ، و الرفض معاً ، ولكن لكل منهما طريقته و أدواته التعبيرية ، لتظل في النهاية البوصلة واحدة: الحرية و الجمال، وهما الشرطان اللذان متى تحققا في العمل الروائي خلد في الذاكرة و الوعي، وهما –أيضاً- الشرطين اللازمين لنجاح الثورة – أي ثورة-.
الرواية / التاريخ:
أياً كان موقع الرواية الزمني ، ومهما إدعى كاتبها أنها رواية شخصية لا علاقة لها بالسياق الجماعي ، تظل الرواية تعبيرا عن موقعها وموقع لحظتها الإدراكية في المجتمع و الذات من السيرورة التاريخية التي تؤدي إلى الثورة . وبالتالي تصبح الرواية تحقيقاً لما يسمى "شهادة الأدب" التاريخية (كما يصفها الروائي إلياس خوري) ، من أن تتقيد بفردانية "أدب الشهادة" ودون أن تكسرها في آن.
فالروائي يكتب بشكل أكثر موضوعية وذاتية في آن من السرد التاريخي المستند على بنى صلبة ، فالرواية فن يجمح إلى الإنسان في النهاية، على غير المنوال التاريخي الذي لا ينجو من فداحة خطاب القوة –على حساب الموضوعية-، ولعل هذا ما أراد الناقد هومي بابا الإشارة إليه بالقول أننا في أحوج مانكون لسرد تاريخي يكتبه المنفيون و المقموعون.
الرواية شاهد على التاريخ من جانبيه : الذاتي و الموضوعي، فتتمثل فيها التحيزات و الإدراك الإنساني للسلطة و الوقة و الجمال و الحق و الحرية والخير ، وكل القيم المطلقة الأساسية لتحديد المنطق الأخلاقي في التعامل مع الذات و الآخر. وبالتالي يصبح الروائي مؤرخاً يغلب على خطابه محددين أساسيين يتحددان كلما نزع الإنسان لداخله في فهم ماهو خارجه: الحرية و الجمال، على العكس من السرد التاريخي الذي يتحدد بمحددات تختلف تماما عن السابقة وهو: القوة و الفائدة ، إذ تكاد تتضاد في أغلب السياق التاريخي مع الحرية و الجمال ، بما يضمن فقط للأقوى تشكيل الوعي و الإدراك.
وتاريخنا الأدبي زاخر بالأمثلة الأدبية التي إنطبعت في الوعي المجتمعي وسجلت لفترة تاريخية حاضرة كأدب السجون وروايات الإجتياح الإسرائيلي للبنان و المقاومة الفلسطينية. إن إدراكنا لأهمية الروائي كمؤرخ "قيمي" للمجتمع عن طريق حالة الحوار و التمثل الروائي يسهم بشكل كبير في تشكيل إدراكنا لذاتنا وتاريخنا ووعينا بسياقنا الحضاري وموقعنا فيه، وذلك عن طريق خلق حالة حوار قيمي معه ومع منتجه المتخيل قبولاً و/أو رفضاً.
كل ذلك تؤسس له النظرة إلى الرواية باعتبارها شهادة عن المجتمع و الحاضر والمستقبل وموقع الإنسان منهم جميعاً ، شريطة أن نتخلص من الفكرة النمطية المقيدة أن الجمالية في الفن نوع من الثمالة والإنفصال عن الواقع المقصورة على فقط إلهاء القاريء عن واقعه ومشاكله ، وجعل التخييل أداة تخدير وتسكين ، وليس أداة تحرر، وكأن لا جمالية في المقاومة و الثورة و الرفض.